تفكيك أكبر شبكة لتهريب حبوب الهلوسة في موريتانيا.. من الهند، عبر دبي، إلى مطار نواكشوط الدولي "أم التونسي"

 تفكيك أكبر شبكة لتهريب حبوب الهلوسة في موريتانيا.. من الهند، عبر دبي، إلى مطار نواكشوط الدولي "أم التونسي"
نواكشوط - محمد سيدي عبد الله
الأثنين 19 ماي 2025 - 19:27

لم يكن صباح الأربعاء عاديًا في العاصمة الموريتانية، نواكشوط. منذ بزوغ الفجر، تقاطرت العائلات أمام قصر العدل، وجوهٌ مرهقة وقلوبٌ معلقة، تنتظر خبراً أو نظرة أو إشارة من أبنائها المحتجزين في واحد من أكثر الملفات إثارة للرأي العام الموريتاني خلال السنوات الأخيرة: ملف "حبوب الهلوسة".

عند التاسعة صباحًا، فتحت الحافلات البيضاء أبوابها أمام ساحة العدالة. ثماني مجموعات من المشتبه بهم، كل حافلة تحمل وجوهاً متعبة يرافقها أفراد الدرك. ثلاثون متهماً دخلوا إلى دهاليز النيابة العامة، التي خصصت ثلاثة من وكلاء الجمهورية لبدء التحقيق.

استمر الاستماع حتى الثالثة بعد الظهر، لتبدأ بعدها مرحلة المداولات، والتي انتهت بقرار يقضي بإحالة 32 مشتبهاً بهم إلى قاضي التحقيق، وطلب حبس 29 منهم احتياطياً، وإصدار أمر إحضار لمشتبه واحد، وأمريْ قبض ضد فارّين.

النيابة العامة تحدثت بلغة صارمة. اتهمت الموقوفين بتكوين جمعية أشرار، والمساس بالأمن والصحة العامة، والترويج لمواد مخدرة، وأدوية مزورة، وعملات مزيفة. ووفق بيانها، عثرت الجهات المختصة على ما يفوق 1.9 مليون قرص وعبوة من المؤثرات العقلية داخل مخازن سرية، إلى جانب مليون دولار مزور، وكميات معتبرة من اليورو والفرنك الإفريقي، وهو ما دفع بالنيابة إلى الإشارة إلى احتمال وجود شبكة عابرة للحدود.

الشبكة، بحسب ما تكشفه مجريات التحقيق، لم تكن مجرد عصابة متفرقة، بل شبكة منظمة تدير عملياتها من داخل العاصمة نواكشوط وحتى أطراف البلاد. من المخازن في عرفات ودار النعيم، (مدن العاصمة) إلى الشاحنة المتجهة نحو الزويرات، (شمال البلاد) كانت خيوط التهريب تنساب بثقة مقلقة.

الرائد محمد ولد الحافظ، من قيادة الدرك الوطني الموريتاني، قال إن التحقيقات كشفت عن توزيع منظم، ووسائل تمويه معقدة، منها خلط الأدوية بمواد غذائية، وإخفاؤها في شحنات موجهة لأغراض طبية. 

وأكد أن الشاحنة التي تم ضبطها قرب ساحة المطار القديم، كانت تحمل كميات كبيرة من "حبوب الهلوسة"، قبل أن يتم سحبها إلى الحجز.  وقال إن أفراد الدرك رفضوا عروض رشوة من الموقوفين لإنهاء القضية.

غير أن الصدمة الحقيقية لم تكن في الكميات أو الأرقام فقط، بل في اعترافات المتهمين. محمد الأنوار محمدن، أحد أبرز المشتبه بهم، تحدث أمام قاضي التحقيق عن شبكة توزيع متكاملة، تبدأ من الهند، تمر عبر دبي، بالامارات العربية المتحدة، وتنتهي في مطار نواكشوط الدولي، "أم التونسي". وصف المطار بأنه “طريق سالك”، وقال إن شحناته لم تتعثر أبدًا. أما ميناء نواكشوط، فكان بدوره معبرًا موازياً، له "رجاله" وسُهّلُه الخاصة.

الرجل أيضا اعترف بوجود وسطاء داخل المطار والميناء، وبأن عملية إخراج البضائع كانت تكلفه 60 ألف أوقية قديمة (155دولار). امتلك شركة مسجلة – الدواء فارما – وكان يحصل على فواتير من شركات بيع هندية، ويعرضها على وزارة الصحة، التي تمنحه التصاريح، وفق ما صرح به.

في المقابل، تحدث عدد من المتهمين عن جهلهم بطبيعة المواد، وقالوا إنهم كانوا مجرد عمّال في صيدليات أو مخازن. وقد تم بالفعل الإفراج عن 18 شخصًا من أصل 32، لعدم كفاية الأدلة، بينما قرر القاضي إيداع 11 السجن، ولا يزال اثنان في حالة فرار.

تقول النيابة إن الملف لم يعد مجرد قضية صحة عامة، بل قضية أمن قومي. كمية المواد المضبوطة، طريقة تهريبها، تورط أفراد في أجهزة رسمية، استخدام وثائق صحية رسمية، كلها دلائل على شبكة تحترف العمل تحت غطاء مؤسسات الدولة.

ومنذ إعلان الدرك عن مداهمات يوم الخامس من ماي، بدا جليًا أن هذه الحبوب ليست مجرد مؤثرات عقلية تباع في الأحياء، بل أدوات جريمة منظمة تهدد الشباب، وتُسهم في تفكك النسيج الاجتماعي، وتفتح المجال أمام قنوات أخرى كتهريب السلاح وتبييض الأموال.

ولم يتوقف الجدل في الشارع الموريتاني. القضية التي حركت الرأي العام منذ أسابيع، أصبحت موضوعًا دائمًا في الإعلام ووسائل التواصل. 

محامو الدفاع وصفوا قرارات النيابة بأنها متوقعة، لكنهم أشاروا إلى أن هناك تضخيمًا للوقائع، وأن بعض المواد مصنفة قانونيًا ضمن المواد “الوسيطة”، التي لا ترقى لخطورة الكوكايين أو الهيروين، وإن كانت العقوبات المتعلقة بها تصل إلى عشر سنوات سجنًا وغرامات باهظة.

ويقول المحامي محمد أنس ولد محمد، في حديث مع "الصحيفة" إن القانون يعتبر هذه المواد خطيرة ولكنها ليست في أعلى درجات الخطورة، كما أشار إلى أن المتهمين ينكرون التهم أو يبررونها بأنها كانت مواد طبية تُستخدم في التخدير أو في نطاق عملهم كمسيرين لصيدليات وشركات توزيع مرخصة.

لكن اللافت أن النيابة وصفت الوقائع بأنها خطيرة ومثبتة، وطعنت في قرار الإفراج عن الـ 18، ما يعكس نيتها في متابعة الملف حتى آخر درجة.

يقول وزير الإعلام السابق والمحامي محمد ولد أمين إن هناك علاقة عضوية بين الحركات الجهادية وحبوب الهلوسة، موضحاً أن أولى المقايضات بدأت منذ حرب أفغانستان، حين تم تبادل الأفيون الذي كان يصدره المجاهدون برعاية أجهزة الاستخبارات الغربية، مقابل حبوب الهلوسة التي استُخدمت لمساعدة المقاتلين على الصمود الانتحاري في تلك الحرب المجنونة.

ويضيف أن الحرب في سوريا حولتها إلى مركز عالمي لصناعة الكبتاغون وحبوب الهلوسة، مشيراً إلى أن حزب الله ساهم في نشر ثقافة التهليس في أماكن عديدة، كما أن حرب ليبيا والحرب العدمية في مالي والنيجر أسهمت في شيوع هذه العقاقير في أوساط شباب المنطقة وخلقت لها سوقاً.

ويتابع قائلاً: من يدقق النظر في العناقيد الأصولية الموريتانية سيصاب بالذعر، فالمليارات التي جُمعت لغزة لم تصل إليها، بل اختفت كما يذوب فص الملح في الماء الساخن، متسائلاً: هل دخلت تلك الأموال في الدورة التجارية لهذه المواد المحرمة

في العمق، تواجه الدولة اليوم تحديين متوازيين: السيطرة على شبكات تهريب متطورة تُحسن التخفي داخل المنظومة، وحماية الصحة العامة من سُمٍّ مموه تحت غطاء "الدواء".

وزارة الصحة أكدت أنها تمكنت من ضبط مئات الكميات المهربة بعد تشديد الرقابة على الميناء والمطار، وأعلنت الشرطة عن مصادرة كميات جديدة، والكشف عن شبكات تهريب إضافية.

أما منظمة "نور القمر"، فقد سبقت في قرع ناقوس الخطر، حين تحدثت منذ أشهر عن الانتشار العشوائي للمخدرات في موريتانيا، وارتفاع عدد المتعاطين، مطالبة بتحرك عاجل من الدولة قبل أن تصبح المواجهة مستحيلة.

الملف لم يُغلق. التحقيقات مستمرة، والمشتبه بهم ما زالوا يُستجوبون. كل يوم يُكشف فيه عن خيط جديد، وشاهد جديد، واعتراف يُعيد ترتيب القطع في صورة أكبر وأخطر مما كان يُظن.

القضية، التي بدأت بحبوب هادئة صامتة، تحولت إلى ملف يُعيد طرح أسئلة عن الرقابة، والموانئ، والمطارات، وطبقات الدولة.

كما يسلط الضوء على حجم التحديات الأمنية التي تواجهها موريتانيا في معركتها ضد شبكات الاتجار غير المشروع بالمخدرات، ويطرح تساؤلات حول البنية التنظيمية لهذه الشبكات، وأبعادها الإقليمية، وموقع موريتانيا في خارطة التهريب الإفريقية.

القفطان.. وأزمة الهوية عند الجزائريين

طُويت معركة أخرى أرادت الجزائر أن تخوضها ضد المغرب، وهذه المرة ليس في مجلس الأمن بخصوص قضية الصحراء، بل داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، التي تعقد ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...